بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
وبعد:
استغرب البعض واندهش محتارا بعض ما استمع إلى مقطع صوتي اشتمل على العجائب والغرائب، من إنكار السنة النبوية الشريفة بدعوى التمسك بالقرآن الكريم والاكتفاء به، وقد نُشر في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي (واتساب) وقد غامر فيه صاحبه اعتمادا على ما يقوله القرآنيون قبله تبعا وتقليدا دون تصريح منه، فأحدث ذلك رعبا في قلوب بعض الدعاة الذين لم يسمعوا من قبل تلك الأقاويل الباطلة.
وسبب ذلك أن هذا المذهب الزائف لم يكن له ظهور في منطقتنا سنغامبيا (سنغال وغامبيا) ولم يعرفه إلاّ قليل من المتخصّصين في المذاهب والفرق، أو المتعمّقين في مباحث السنة ومواقف العلماء منها رواية ودراية، وبناء على ذلك لم يجدوا داعيا لتناولها كقضية ذات أولية حسّاسة.
وبناء على ذلك كله فمن البديهي أن يستغرب بعضهم أو جُلهم هذا المذهب العجيب الذي أخذ ينتشر في أوساط الطلبة وبين العوام فينا بعدما فُتحت الحدود وعُطّلت الثغرات، إمّا لأجل متاع من الدنيا قليل، وإمّا بغزو فكري واستهواء عقول الكثير، ولم يبق ثَمّ مدافع ولا مرابط، ولا من يُلقي السمع وهو شهيد.
وهذا ما أنهضني وشحذ همّتي لكتابة هذه المقالة القصيرة التي أردت من خلال سطورها التنبيه على خطورة هذا الاتجاه، مع بيان بطلان مُحتواها اعتمادا على قول من تقدمني من العلماء في هذا الشأن فأقول:
ذهب كثير من العلماء رحمة الله عليهم أو جُلّهم قديما وحديثا في سياق تأصيل حجية السنة النبوية الشريفة وبيان تكاملها مع القرآن الكريم إلى أن قول ربّنا عز وجلّ في محكم تنزيله لنبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[1]. يفيد ذلك ويؤصّله.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِقَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، قال رحمه الله تعالى: فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَادَهُ مِمَّا أَجْمَلَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُفَصِّلْهُ.[2] هنا كما نرى يقرّر لنا الإمام رحمه الله أن أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام بيان لما أنزله الله تعالى عليه من القرآن الكريم.
وقد تبعه في ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره وبيّن لنا ذلك بشكل مفصّل فقال: فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}[3]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[4]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[5].
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ ومِثلَهُ مَعَهُ)[6] قال ابن كثير يعني: السنة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟ “. قال: بكتاب الله. قال: “فإن لم تجد؟ “. قال: بسنة رسول الله. قال: “فإن لم تجد؟ “. قال: أجتهد برأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله” وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه[7]. [8].
هذا وغيرها من الأدلة الواردة في هذا السياق كثيرة كثرة قائلها نورد من كليهما ما يلي على وجه الاقتصار:
من الأدلة: ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث العرباض بن سارية قال رضي الله عنه: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[9].
وما أخرجه أيضا والإمام الترمذي في سننه عن زيد ابن أرقم قالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ. وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا[10]. وهذه الأحاديث صريحة الدلالة في الردّ على من يقول بموجب الاكتفاء بالقرآن الكري
وأوضح منهما وأبلغ ما أخرجه الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ، فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ[11].
وهذا الحديث نصّ صريح يردّ على كلّ من يزعم بوجوب الاكتفاء بالسنة، كما أن فيه أيضا تمثيلا منه صلى الله عليه وآله وسلّم وتطبيقا؛ حيث ذكر حرمة لحم الحمار الأهلي وكل ذي ناب من السباع مع العلم أن حكمهما لم يردا في القرآن الكريم.
ويؤكّد ذلك ويبيّنه أكثر موقف الصحابي الجليل عمران بن حصين رضي الله عنه كما في المستدرك عن الحسن قَالَ: بَيْنَمَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ، عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا نُجَيْدٍ، حَدَّثَنَا بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: «أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، أَكُنْتَ مُحَدِّثِي عَنِ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا وَحُدُودِهَا؟ أَكُنْتَ مُحَدِّثِي عَنِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَأَصْنَافِ الْمَالِ؟ وَلَكِنْ قَدْ شَهِدْتُ وَغِبْتَ أَنْتَ» ، ثُمَّ قَالَ: «فَرَضَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الزَّكَاةِ كَذَا وَكَذَا» وَقَالَ الرَّجُلُ: أَحْيَيْتَنِي أَحْيَاكَ اللَّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى صَارَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ[12].
ومن القائلين المصرّحين بثبوت حجية السنة قبل هؤلاء:
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كما أشار إلى ذلك ابن كثير قبل قليل، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى بتحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون في سياق بيان سنة تعليم الحكمة بعد ما أورد الآيات قائلا: وابتعَث الله تعالى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَ الناسَ الحِكمة. الآيات:
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}[13].
وقوله سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}[14] .
وقوله عز وجل: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[15] وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ}[16] .
وقوله جل وعلا: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالحِكْمَةِ}[17] .
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: والحكمة: هي السُّنَّةُ.
ثم قال: قال الشافعي رحمه الله: “فذكر الله الكتابَ وهو القرآنُ، وذَكَرَ الحِكمةَ، فسمعتُ مَنْ أَرْضَى مِن أهل العلم بالقُرآن يقول:
الحِكمة: سنةُ رسولِ الله” [18].
وقال ابنُ كثير – رحمه الله -: ” وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ} يعني القرآنَ. {وَالحِكْمَةَ} يعني السنة، قاله الحسنُ وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم[19].
قال أبو زهو في سياق الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة جملة وهم القرآنيو
هؤلاء القوم محجوجون بالأدلة السابقة، وبغيرها مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[20] ، فلو كان القرآن في غنى عن السنة لما كان لهذه الآية معنى، ونحن إذ نستمسك بالسنة، ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل بكتاب الله. قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى[21] “، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[22]، قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ورُوي أن طاووسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة بعد صلاة العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[23] وهذا من ابن عباس رضي الله عنه موقف صريح.
وقال ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى قبله بكثير في سياق الرد على هؤلاء بعدما أورد قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[24] وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}[25].
ثم قال: ونسأل قائل هذا القول الفاسد (يعني: الاكتفاء بالقرآن) في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع وبيان الربا، و الأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات، وسائر أنواع الفقه. ثم أضاف قائلا: وإنما في القرآن جملٌ لو تُركنا وإياها لم نَدْر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع. ثمّ عقّب بقوله قبل أن يدرك: إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة.
ثم التفت قائلا: ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال[26].
وخلاصة القول في هذه المسألة ما قرّره الأستاذ علي حسيب الله في مقدمته لكتاب السنة قبل التدوين بعد ما استدلّ للمسألة استدلالا حيث قال جزاه الله خيرا: ولا خفاء بعد هذا في أن كتاب الله هو أصل دينه، وأنّ سنة نبيّه – قولية أو فعلية – هي الموضّحة لأحكامه، والمفصّلة لإجماله، والهادية إلى طريق تطبيقه، فهما صنوان لا يفترقان ومنبعان للشّريف متعاضدان…وقد ابتُلي المسلمون في كلّ عصر من العصور بمن يحاول صرفهم عن الإسلام، تارة بالطعن في كتابه، وأخرى بمحاولة انتقاصه من أطرافه بالطعن في السنة التي تفصّل ما أُجمل منه، وتوضّح ما خفي، وكأنّهم حين وقفوا من القرآن أمام جبل شامخ لا يلين، ورجعوا بعد العناء طرقا، وتكلّفوا شططا، فمنهم من تجنّى على الرّواة وطعن في عدالتهم وصدقهم، ومنهم من طعن في متن الحديث فأنكر منه ما لم يُوافق هواه، ومنهم من ادّعى انقطاع الصِلات بين الرّسول وبين ما يُروى عنه، وتعذّر تمييز الصحيح منه من السّقيم لإهمال تدوينه نحو قرنين من الزمان، وانتشار وضع الحديث انتصارا لرأي أو إبطالا لمذهب فدعا إلى إهمال الحديث جملة والاكتفاء بالقرآن الكريم، ومن المؤسف حقّا أن يقول بهذا الرأي من يزعم أنه من المسلمين[27].
وكذلك الشيخ المحدث محمّد أبو شهيد أستاذ الأزهر إذ قال: قد ظهر فئة في القديم والحديث تدعو إلى هذه الدعوى الخبيثة (وهي الاكتفاء بالقرآن) وغرضهم هدم نصف الدّين، أو إن شئت قلت: تقويض الدّين كلّه.
لأنّه إذا أُهملت الأحاديث فسيؤدّي ذلك ولا ريب إلى استعجام معظم القرآن على الأمة وعدم معرفة المراد منه. وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فقُل على الإسلام العفا [28].
قلت ولولا السنة النبوية كيف نفهم قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[29] ونحوها كثيرة.
وفي الختام أقول: من خلال ما سبق يُعرف أن هذه الدعاوى ليست وليدة العصر، بل آراء سبقت هؤلاء المغردين بقرون، وأن أكثر ما يُمكن أن يُقال في حقّ معاصرينا منهم إنّهم مقلّدون، وإن لم يُصرّحوا بذلك حيث أظهروا أنفسهم أنّهم مؤصّلون. لكن الهمجية يُشبه أحيانا المنهجية.
وعلى أيّة حال ورغم أنف كلّ محتال، من مكثري القيل والقال، لإثبات كلّ ما هو محال، ثبت يقينا وتقرّر متينا أن السنة النبوية مفسّرة للقرآن الكريم، وموضّحة لأحكامه، ومفصّلة لمجمله، وشارحة لقواعده الكلية العامة، ومخصّصة لمطلقه، ومقيّدة لعامّه، ومبيّنة لناسخه ومنسوخه، وهادية إلى طريق تطبيقه.
فلولا السنة النبوية الشريفة لمّا عرّفنا كما ابن حزم رحمه الله تعالى أن الظهر أربع ركعات وأن المغرب ثلاث ركعات وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا، و لمّا عرفنا أيضا أن صفة القراءة في الصلاة كذا ومثله تحية التحليل. وبيان ما يجتنب في الصوم مما يفسده، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع وبيان الربا، والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات وغير ذلك كثيرة يعرفه العالم والجاهل سواء من العرب أو من العجم. هذا وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
المصادر والمراجع
تفسير القرطبي المسمى ب: الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير
من السنة النبوية:
صحيح البخاري
المستدرك على الصحيحن للحاكم
سنن الترمذي
سنن أبي داود
مسند الإمام أحمد
الإحكام في أصول الأحكام، المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الأندلسي القرطبي الظاهري.
الحديث والمحدثون، المؤلف: محمد محمد أبو زهو رحمه الله.
السنة قبل التدوين للأستاذ علي حسيب .
في رحاب السنة للشيخ المحدث محمّد أبو شهيد أستاذ الأزهر
بقلم الباحث: بشير باه الغامبي
تمّ الكتابة والتحرير يوم الخميس، الثامن
والعشرون من شهر ربيع الأوّل سنة: 1440 هجرية، الموافق بتاريخ الميلادي:
6/12/2018.
[1] سورة النحل آية: 44.
[2] الكتاب: الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات) ينظر: [سورة النحل (16): الآيات 45 الى 47] ج: 10.
[3] سورة النساء آية: 105.
[4] سورة النحل آية: 44.
[5] سورة النحل آية: 64.
[6] أخرجه الإمام أحمد في مسنده تحت عنوان لا إسلام بغير السنة.
[7] الحديث كما قال رحمه الله تعالى وقد أخرجه كل من الترمذي في سننه وأبوداود وكذلك أحمد في مسنده وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد.
[8] الكتاب: تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ – 1999 م، عدد الأجزاء: 8. ينظر: مقدمة ابن كثير ج: 1.
[9] مسند الإمام أحمد حديث العرباض بن سارية رقم: 17145.
[10] سنن الترمذي باب مناقب أهل بيت النبي رقم: 3788. ومسند الإمام أحمد في مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رقم: 11561.
[11] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث المقداد بن معدي كرب رقم: 17174. وقال المحققون: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي، فمن رجال أبي داود والنسائي، وهو ثقة.
[12] المستدرك على الصحيحين رقم: 372.
[13] سورة البقرة آية: 129.
[14] سورة البقرة آية: 231.
[15] سورة النساء آية: 113.
[16] سورة الإسراء آية: 39.
[17] سورة الأحزاب آية: 34.
[18] الكتاب: مسند الإمام أحمد بن حنبل، المؤلف: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، المحقق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م. ينظر: فوق عنوان: لا إسلام بغير السنة.
[19] تفسير ابن كثير المقدمة ج: 1، ص: 444.
[20] سورة النحل آية: 44.
[21] الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه باب الموصلة رقم: 5943 بدون: فبلغ ذلك…
[22] سورة الحشر آية: 7.
[23] الكتاب: الحديث والمحدثون، المؤلف: محمد محمد أبو زهو رحمه الله، الناشر: دار الفكر العربي، الطبعة: القاهرة في 2 من جمادى الثانية 1378هـ، عدد الأجزاء: 1، ينظر: المبحث الثالث منزلة السنة النبوية في الدين.
[24] سورة النساء آية: 80.
[25] سورة النساء آية: 105.
[26] الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام، المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ)، المحقق: الشيخ أحمد محمد شاكر، قدم له: الأستاذ الدكتور إحسان عباس، الناشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت، عدد الأجزاء: 8، ينظر: ج: 2، ص: 79.
[27] الكتاب: السنة قبل التدوين للأستاذ علي حسيب ص: 6.
[28] الكتاب في رحاب السنة ص: 13.
[29] سورة الإسراء آية: 78.